فيما مضى من الزمن القديم أتذكر ذاك اليوم الذي حدثني جدي عنه عندما قمنا بزيارته في القرية .
كعادته فرح بشوش ... الابتسامة تعلو محياه ... والبشر والسرور يكتسيه كحلة جديدة تتجدد صباح مساء ...
سلَّمتُ عليه بعد أن قبّلتُ يُمناه منحيا تقديرا واحتراما لذاك الأنموذج الرائع في حياتنا .. فقد اعتدنا نهاية كل أسبوع أن نطرق بابه ونأنس بلقياه ونستلهم منه العبرة والعظة والتوجيه الحسن...
هذه الزيارة لم تكن كعادتها من الزيارات فقد وقع نظري هذه المرة على لوحة جديد معلقة في إحدى جدران غرفته .
لفتت انتباهي الصورة بادرت جدي متسائلا : جداه لم أرَ هذه الصورة من ذي قبل معلقة هنا ؟
رد علي بعد أن أهداني ابتسامة خفيفة : نعم يا بُنيَّ وجدتُها في بعض أغراضي القديمة التي في الصندوق ...
قلتُ : جدي كأن الصورة تريد أن تقول شيئا ما في جعبتها .. ؟!!
مرة أخرى جدي مبتسما : نعم ... نعم ... نعم ... تعال يا بُنيَّ اقترب مني لأخبرك سر هذه الصورة ...
تنهيدة خفيفة صدرت منه .. . لفت انتباهي من خلالها ...!!!
: إنه الرجل المريض ... !!!
تعجبتُ منه ؟ !! : جدي وماذا حل به هذا الرجل المريض ...
... .... ....
قال : عبد المحسن هذا هو اسمه كان من خيرة رجال القرية يقطن في بيته هو وزوجته فاطمة ... لم يشأ أن يرزقهما الله الذرية ... ؟! عاشا وحيدين .. إلا أن أغلب أبناء القرية وشبابها كانوا يمرون عليهما ويلقون بالتحية لهم والسلام ...
الكل مستأنس بهما ومسرور بوجودهما ...
أترى يا بُنيَّ تلك النافذة الخشبية من الطراز القديم وذاك السراج الذي على يمنيها كان شبان الحي دوما يأتون إلى تحتها و ينادون : أيها الجد المحسن وأيتها الجدة الطيبة أنتما هنا ...؟! فيطل أحدهما قائلا نعم تفضل ماذا تريد ؟...
: هل لي أن آخذ أحدى الدرجات الهوائية لأجلب أغراضا لأهلي من السوق
: لا ضير خذ أيا منها ...
يمتطي الشاب الدراجة : أأجلب لكما شيئا من السوق....
: لا لا شكرا لك ... وكن حذرا في الطريق ...
مشهد آخر متكرر عند الغروب حينما يبدأ الظلام و يرسل أجنحته يمر عليهما أحدهم : الجد المحسن والجدة فاطمة قد آن وقت دخول الغروب هلا أنرتما الشارع بتلك المصابيح الجميلة ... فقد حل المساء ... !!!
أترى يا بني ذاك الباب السفلي . ؟
نعم جدي ...
هذا ليس بمدخل الدار بل هو مجلس للجد عبدالمحسن ... دوما عندما المساء يجتمع صبيان القرية وربما أحيانا شبابها ليستمعوا لشيء من سوالف الأزمان الغابرة وأحداث وبطولات وأمجاد أشاوس قريتهما إبان الهجوم الذي يتعرضون له من اللصوص وقطاع الطرق ...
===
توقف جدي برهة عن الكلام ثم أشار إلى صامتا أجلب لي الصورة :
قمت مسرعا وأتيت له فأخذ يتأملها والصمت قد تملكه ونزلت دمعة على برواز الصورة ... !!!
جدي ماذا بك ؟!!!
أحسست أن ثمة شيء ما ...
همس إلي والألم يعصر فؤاده ...
: مات عبد المحسن وماتت فاطمة في يوم واحد....
مندهشا مما سمعته : ماذااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا ؟؟
: نعم يا بني ...
أصابتهما حمى شديدة في ليلة من الليالي دون أن يشعر بهما أحد من أهالي القرية إلا بعد طلوع أشعة الشمس لأن المصابيح لم يطفأ نورها ....
استغرب أهل القرية ولكنهما ظنوا أن الجد والجدة في القرية الأخرى كعادتهم لزيارة أصدقائهم وسيرجعون عند المساء ككل مرة ...
مر اليوم الثاني ولم تطفَ الأنوار ... حينها شعر بعض رجال الحي أن هناك أمر ما مريب ...
فتحوا باب الدار وتسللوا فأصابتهم الدهشة والذهول فقد رأوا الجد عبد المحسن والجدة فاطمة كلا ممسكا بيد الآخر وقد فارقا الحياة ...
لم تنم القرية تلك الليلة ولم يهنأ الأطفال ولم ترتسم الابتسامة على وجه أي أحد من شباب الحي وخيم الحزن والصمت في موكب جنائزي مهيب لم تشهد القرية مثله من ذي قبل ...
رحل العجوزان وتركا لأهالي القرية تركة هي بيت من الطراز القديم
ودراجتين هوائيتين لشباب الحي يقضون بهما مشاوير حياتهم، ومصابيح تضيء للمارة في المساء ، ومجلس لصبية وأطفال القرية يرتشفون منها أسارير الماضي وحكايات الزمن التليد
مات العجوزان وخلفا تلك التركة ولم يرثهما أحد سوى الوريث الأول لهما
وهي قرية بأكملها شباب وشيب وصبية وحي بأكمله ...
احتضن جدي تلك الصورة وسالت على خده دموع أخرى
بعد أن أرسل لي نظرة بريئة قائلا :
تلك هي القصة وهذه تركة الرجل المريض ...
سكون الحب
13/06/2009م
السبت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق